الخميس، 6 أغسطس 2009

صور ثلاث - فرجينيا وولف Virginia Woolf

الصورةُ الأولى
من المستحيل على المرءِ أن يتجنّبَ رؤية الصور ؛ فلو كان أبي حدّادًا ، وأبوك كان أحد النبلاء في المملكة ، فسنحتاجُ حتمًا إلى أن نكون صورًا لبعضنا البعض .

لن يكون بوسعنا أن نهربَ جماعيًّا من إطار الصورة عن طريق قول كلماتٍ مألوفة . أنت تراني منحنيًا أمام باب دكان الحدادة ممسكًا في يدي بحدوة حِصان فتفكرُ وأنت تمرُّ جواري : يا له من مشهدٍ رائع يستحق التصوير

وأنا ، حين أراك جالسًا بثقة واطمئنان شديد في السيارة ، كأنك ذاهبٌ كي تنحني أمام حشود العامة، أفكّرُ : يا لها من صورة لإنجلترا الأرستقراطيّة العريقة المترفة ، كلانا مخطئٌ تماما في حُكمه دون شك ، لكنه أمرٌ محتوم . هي تلك الطريقة التي تجري بها الأمور على مدار الأيام .

فاليوم رأيت عند منعطف الطريق واحدةً من تلك الصور . ربما كان اسمُها عودةُ البحّار إلى الوطن ، أو ربما كان اسمًا شبيهًا بذلك .

بحارٌ أنيق و شاب يحمل مِخْلاةً ، فتاةٌ يدُها في ذراعه ، والجيران محتشدون حولهما ، وحديقةُ كوخٍ ريفيّ صغير متوهجةٌ بالورود
حين يمرُّ المارُّ سوف يقرأُ في أسفل تلك الصورة أن البحّارَ كان عائدًا لتوّه من الصين ، وأن ثمة مأدبةً رائعة كانت تنتظره في ردهةِ الدار ، وأن هديةً في مخلاته كان جلبها البحّارُ لزوجته الشابة ، وأنها كانت سرعان ما سوف تحمل وتنجب له طفلهما الأول .

كلُّ شيء كان مضبوطًا وجميلاً وكما يجب أن يكون ، هكذا يشعرُ المرءُ حيال تلك الصورة . ثمة شيءٌ ما كان يوحي بالهناء والرضا في مرأى مثل هكذا سعادة ، فالحياةُ تبدو أكثرَ حلاوةً وفتنةً عن ذي قبل . هكذا كان تفكيري وأنا أمرُّ بهم ، ثم أقوم بملء فراغات الصورة بأكثر ما يمكنني من زخم واكتمال ، أتأمّلُ لونَ فستانِها ، لونَ عينيه ، وأرقب القطّة التي لها لونُ الرمل وهي تنسلُّ خِلسةً حول باب الكوخ .

لبرهة من الزمن ظلّتِ الصورةُ تسبحُ في عينيّ ، بحيث تجعل معظمَ الأشياء تبدو أكثر بريقًا ودفئًا، وأكثر بساطةً من المعتاد ، بحيث تجعل بعضَ الأشياء تبدو سخيفةً خرقاء ، وبعضَ الأشياء خاطئةً وبعضَها صحيحةً وأكثر امتلاءً بالمعنى عما قبل .

في لحظات نادرة خلال ذلك اليوم واليوم الذي يليه كانتِ الصورةُ تعودُ إلى العقل، فيفكر المرءُ بحسد لكن على نحو طيّب بالبحّار السعيد وفي زوجته ، ثم يتساءل المرءُ عما عساهما يفعلان ، وماذا تُراهما يقولان الآن .

الخيالُ يمدُّنا بصورٍ أخرى تنبثق من الصورة الأولى : صورة البحّار وهو يقطّع حطبَ الوقود ، وهو يسحبُ الماء من البئر ، فيما يتكلمان عن الصين ، والفتاةُ التي وضعت هديته فوق جدار المدفأة ليكون بوسع كل من يأتي أن يراها ، راحت تحيك في ملابس طفلهما القادم ، بينما كانت كلُّ النوافذ والأبواب مفتوحةً على الحديقة بحيث تصفّق الطيورُ بأجنحتها وترفرف من مكان إلى آخر والنحلاتُ تطنُّ، و روجرز (هكذا كان اسمه ) لا يستطيع أن يصفَ إلى أي مدى كان كلُّ ذلك مُرضيًا له بعد عُباب بِحار الصين. بينما كان يدخن غليونه، وقدمه ممدودةٌ في الحديقة .


الصورةُ الثانية
في منتصف الليل دوّتْ صرخةٌ عالية في كل أنحاء القرية . بعد ذلك كان ثمة صوتٌ لشيء يجر ساقيه ، وبعدها سكونٌ مطبق . كل ما كان يمكن رؤيته من النافذة هو غصنُ شجرة الليلك الذي يتدلى عبر الطريق على نحو مضجر دون حراك . ليلةٌ حارّة خامدة . بلا قمر . الصرخةُ جعلت كلَّ شيء يبدو مشؤومًا .

من الذي صرخ ؟ لماذا صرخت ؟ كان صوتَ امرأة ، تسبّب فيه هولٌ عظيم لشعورٍ يكاد يكون خلوًا من النوع ، خلوًا من التعبير. كان صوتٌ كأنه الطبيعةُ البشرية تصرخ ضدَّ جَوْرٍ ما ، ضد رعبٍ يفوق التصوّر . ثم عمَّ سكونٌ كالموت . النجوم ظلّت تلمع بثباتٍ متقن . والحقول ترقد ساكنة . والأشجار صامتة دون حراك .

مع ذلك بدا كل شيء مذنبًا ، ثابتةٌ عليه التهمة ، ومنذرًا بالشؤم . يشعر المرءُ كأن شيئا ما يجب أن يحدث . كأن ضوءًا ما يجب أن يظهر متقاذفًا ومتخبّطًا بقلق . شخصٌ ما يجب أن يظهر راكضًا نحو الطريق . ونوافذ الكوخ الريفيّ يجب أن تكون مضاءةً . وبعد ذلك ربما تدوّي صرخةٌ أخرى ، غير أنها ستكون أقل غموضًا ، وأقل افتقارًا إلى الكلمات ، ستكون أكثر راحةً، أكثر سكونًا .

لكن لا ضوءَ ظهر . لا قدمَ سُمعت خطاها . وليس من صرخةٍ أخرى دوّت . فالأولى كانت قد اِبتُلِعت ، وسادَ سكونٌ رهيب . يرقد المرءُ في الظلام يصيخُ السمع . بالكاد كان ثمة صوت . ليس من شيء يمكن أن يرتبط به . ليس من صورة من أي نوع ظهرت لتفسّر الصوتَ ، لتجعله مفهومًا للعقل .

لكنْ حين بدأ ينقشع الظلامُ في الأخير، كان كل ما يستطيع المرءُ أن يراه هو هيأت بشرية غامضةُ المعالم ، بلا شكل تقريبًا ، ترفع عبثًا ذراعًا عملاقة ضدَّ ظُلْمٍ مروّع غامر.


الصورةُ الثالثة
الطقسُ المعتدل ظلَّ متواصلاً . لولا تلك الصرخة الوحيدة في قلب الليل لأحسَّ المرءُ أن الأرضَ قد أرستْ قلوعَها في الميناء ، وأن الحياةَ قد كفّّت عن الاندفاع أمام الرياح ، لأنها وصلت إلى أحد الخلجان الصغيرة الساكتة وأرخت مرساها هناك ، وراحت بالكاد تتحرك الهوينى فوق صفحة المياه الهادئة . لكن الصوتَ ظلَّ يلحُّ . أينما ذهب المرءُ ، ربما كانت جولةً طويلة صعودًا نحو التلال ، شيء ما كأنه يمور باضطراب تحت السطح ، يجعل السلام والأمن والاتزان الذي يحيط بالمرء يبدو إلى حد ما غير حقيقي .

كانت الخرافُ تتجمع كعنقود على جانب التل ، والوادي يتكسّر في موجات تتناقص تدريجيًّا مثل شلال من المياه الناعمة . ثم يصل المرءُ إلى البيوت الريفيّة المنعزلة . الجرو يتدحرج في الفناء . الفراشاتُ تطفرُ وتثبُ في مرح فوق نباتات الجولق . كلُّ شيء بدا هادئًا وآمنًا لأقصى درجة . غير أن المرء يظلُّ يفكر ، هناك صرخةٌ قد مزّقت الهدوء ، كلُّ هذا الجمال كان ضالعًا في الجريمة مع الليل ، الذي قَبِلَ ورضي بأن يظلَّ ساكنًا ، بأن يظلَّ جميلا ، في أية لحظة يمكن أن يتمزّق الهدوءُ ثانيةً . هذه الطِيبةُ ، هذا الأمان كان فوق السطح، وحسب .

بعد ذلك، و من أجل أن يخفّفَ المرءُ عن نفسه وطأةَ مِزاجِه المضطرب الوجِل ، ويسرّي عن نفسه ، يتحوّل إلى صورة عودةُ البحّار إلى الوطن . يتأملّها كلَّها مجددًا مُنتجًا العديدَ من التفاصيل الصغيرة المتنوعة اللونُ الأزرق لفستانها ، الظلالُ التي تسقط من الشجرة الصفراء المزهرة تلك التفاصيل التي لم نستخدمها من قبل .

ها هما قد وقفا عند باب الكوخ الريفيّ ، هو ومخلاته فوق ظهره ، وهي برفقٍ تكادُ تمسُّ كُمَّه بيدها . وقطّةٌ بلون الرمال تتسلّل خلسةً من الباب . وهكذا يستمر المرءُ تدريجيًّا في احتواء الصورة بكل تفاصيلها ، يقنعُ نفسَه بالتدريج أن هذا السكون والسعادة والرضا والجمال من المحتمل جدا أن يمتد تحت السطح أكثر من أي شيء غادِرٍ أو مشؤوم .

النعاجُ التي ترعى ، تموجاتُ الوادي ، بيتُ المزرعة ، الجروُ ، الفراشاتُ الراقصة ، جميعُها كانت في الواقع تشبه كلَّ شيء في العمق . وهكذا يقفل المرءُ عائدًا إلى البيت وعقلُه مثبّتٌ على البَحّار وزوجته ، مُكمّلاً لهما صورةً تلو صورةٍ ، ذلك أن صورةً وراء صورةٍ للسعادة والرضا قد تتمدد وتطغى على ذلك القلق والاضطراب ، تطغى على تلك الصرخة الشنيعة ، حتى يتم قمعُها وسحقُها فتسكن تحت وطأة إلحاحهم ، خارج الوجود .

ها هي القريةُ أخيرًا ، وساحةُ الكنيسة التي لابد أن يمرَّ عبرَها المارُّ، وتأتي الفكرةُ المعتادة ، بمجرد أن يدخلها ، عن السلام الذي يعمُّ المكان ، بأشجاره الصنوبر الظليلة ، وشواهد أضرحته المصقولة ، وقبوره المجهولة غير المسماة . الموتُ بهيجٌ ها هنا ، هكذا يشعر المرء . حقًّا ؟ انظرْ إلى تلك الصورة ! ثمة رجلٌ يحفر قبرًا ، والأطفالُ يقومون بنزهة خلوية جواره بينما هو مستغرقٌ في عمله .

وعندما تحمل المجرفةُ حفنةً من التربة الصفراء لتُقذفها عاليًا، يكون الأطفالُ مستلقين هنا وهناك يأكلون الخبزَ والمربى ويشربون اللبنَ من الأباريق الضخمة . زوجةُ حفّار القبور، الحسناءُ السمينة ، كانت تتكئ بجسدها على شاهد القبر بعدما بسطتْ مئزرَها فوق العشب جوار القبر المفتوح كي تستخدمه كطاولة شاي .

بعضُ كتلٍ من الطمي كانت قد سقطت بين أغراض الشاي . مَنْ ذاك الذي سوف يُدفن ، أتساءلُ . هل مات أخيرًا السيد دودسون العجوز ؟ أوه ! كلا . إنه للشاب روجرز، البحّار، أجابتِ المرأةُ وهي تحملق في وجهي . مات منذ ليلتين، قضى بحمى أجنبية غريبة . ألم تسمعْ زوجتَه ؟ لقد اندفعتْ في الطريقِ وصرختْ هنا أيها الجندي ، تغطيّتَ تمامًا بالتراب . يا لها من صورة !

هناك تعليق واحد:

Mohammed يقول...

الدنيا مظاهر